ساحة جامع الفنا: قلب مراكش النابض وسحر التراث المغربي

بِسْــــــــــــــــمِ اﷲِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 


تُعد ساحة جامع الفنا في مدينة مراكش واحدة من أشهر الساحات في العالم، حيث تجمع بين التاريخ العريق، الثقافة المغربية الأصيلة، والحياة النابضة بالحيوية. تُلقب هذه الساحة بـ"قلب مراكش"، فهي مركز المدينة الثقافي والاجتماعي، ووجهة سياحية مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي لليونسكو منذ عام 2001. من رواة القصص إلى باعة الطعام، ومن الموسيقيين إلى سحرة الثعابين، تقدم ساحة جامع الفنا تجربة فريدة تأسر الحواس وتأخذ الزائر في رحلة عبر الزمن. في هذا المقال، نستكشف تاريخ الساحة، معالمها الثقافية، أجواءها الساحرة، ولماذا تُعد وجهة لا غنى عنها لكل زائر إلى المغرب.

تاريخ ساحة جامع الفنا: من السوق التاريخي إلى رمز عالمي

الأصول والتأسيس

تعود جذور ساحة جامع الفنا إلى القرن الحادي عشر، عندما تأسست مدينة مراكش على يد يوسف بن تاشفين، مؤسس الدولة المرابطية. كانت الساحة في البداية مركزًا للتجارة والتجمعات العامة، حيث كانت تُعقد فيها الأسواق وتُنفذ الأحكام العامة. يُعتقد أن اسم "جامع الفنا" يعني "مسجد الفناء"، ربما بسبب وجود مسجد قريب دُمر مع الزمن، أو لأن الساحة كانت مكانًا "يفنى" فيه كل شيء بسبب الحيوية والتغيرات المستمرة.

العصور الوسطى والتطور

خلال حكم الموحدين (1121-1269)، أصبحت مراكش عاصمة إمبراطورية واسعة، وتحولت ساحة جامع الفنا إلى مركز ثقافي واقتصادي. كانت الساحة تستضيف التجار، الحرفيين، والرواة الذين ينقلون القصص الشعبية والأخبار. في هذه الفترة، بدأت الساحة تكتسب طابعها الثقافي المميز، حيث أصبحت مسرحًا مفتوحًا للفنون الشعبية.

السعديون والعلويون

في القرن السادس عشر، خلال حكم السعديين، شهدت الساحة ازدهارًا كبيرًا بفضل إعادة إعمار مراكش وتعزيز مكانتها كمركز تجاري. أُضيفت معالم قريبة مثل قصر الباهية ومسجد الكتبية، مما جعل المنطقة مركزًا حيويًا. في عهد الدولة العلوية، استمرت الساحة في لعب دورها كمسرح شعبي، حيث كانت تستضيف الاحتفالات الملكية والمهرجانات.

الفترة الحديثة

خلال الاستعمار الفرنسي (1912-1956)، حافظت ساحة جامع الفنا على طابعها التقليدي، وأصبحت رمزًا للمقاومة الثقافية. بعد الاستقلال، أدركت السلطات المغربية أهمية الساحة كتراث ثقافي، فتم ترميمها وحمايتها. عام 2001، أُدرجت الساحة ضمن قائمة اليونسكو كجزء من "التراث الثقافي غير المادي"، تقديرًا لدورها في الحفاظ على الفنون الشعبية والرواية الشفوية.

الأجواء الساحرة في ساحة جامع الفنا

ساحة جامع الفنا هي مسرح حي يتغير طوال اليوم، حيث تقدم تجربة مختلفة مع كل ساعة:


 

النهار: السوق النابض بالحياة

في الصباح والظهيرة، تتحول الساحة إلى سوق مفتوح يعج بالحركة. الباعة يعرضون منتجات متنوعة، من العصائر الطازجة مثل عصير البرتقال إلى التوابل، الجلود، والحرف اليدوية. تجد هنا أيضًا عربات تبيع الفواكه المجففة والمكسرات، بينما تنتشر العربات التقليدية التي تقدم الحريرة (شوربة مغربية) والبسطيلة.

العصر: الفنون الشعبية

مع اقتراب الغروب، تبدأ الساحة في اكتساب طابعها الفني. يتجمع الحكواتيون (رواة القصص) ليرووا حكايات الأبطال الأسطوريين والقصص الشعبية بلغة نابضة بالحياة. كما يظهر سحرة الثعابين، الذين يجذبون الزوار بحركاتهم المثيرة وثعابينهم المروضة. الموسيقيون من قبائل كناوة والأمازيغ يعزفون إيقاعات تقليدية باستخدام الطبول، القراقب، والرباب، بينما تتمايل الراقصات في عروض مبهرة.

الليل: مهرجان الطعام

مع حلول الليل، تتحول الساحة إلى مطبخ مفتوح يضم عشرات الأكشاك التي تقدم أطباقًا مغربية شهية مثل الطاجين، الكسكس، المشويات، ورأس الخروف (طبق تقليدي). رائحة التوابل تملأ الجو، والدخان المتصاعد من المشاوي يضفي أجواء احتفالية. الزوار يجلسون على مقاعد خشبية، يتبادلون الأحاديث مع السكان المحليين، في تجربة تجمع بين التذوق والتفاعل الثقافي.

أهم معالم ونشاطات ساحة جامع الفنا

1. الرواية الشفوية والحكواتيون

يُعد الحكواتيون رمزًا للتراث الثقافي غير المادي في الساحة. يتجمع الناس حولهم في دوائر للاستماع إلى قصص ملحمية، حكايات شعبية، أو نكات طريفة. هذه التقاليد، التي تُنقل عبر الأجيال، تُحافظ على اللغة العربية الدارجة والتراث الأمازيغي.

2. الموسيقى والرقص

تستضيف الساحة عروضًا موسيقية متنوعة، من إيقاعات كناوة الروحية إلى الأغاني الأمازيغية التقليدية. الرقصات مثل الأحيدوس ورقصة كناوة تجذب الزوار، وغالبًا ما يُشجع السياح على المشاركة في هذه العروض.

3. سحرة الثعابين والعروض الغريبة

عروض سحرة الثعابين هي واحدة من أكثر النشاطات إثارة في الساحة. يستخدم السحرة الناي لجذب الثعابين، مما يخلق مشهدًا مثيرًا للدهشة. كما تظهر عروض أخرى مثل المشعوذين ومروضي القرود، تضيف طابعًا غريبًا وساحرًا.

4. أكشاك الطعام

تُعد أكشاك الطعام في الليل من أبرز معالم الساحة. يمكنك تجربة أطباق مثل الحلزون المغربي (بولبول)، الساندويتشات المحلية، أو الحلويات التقليدية مثل الشباكية. الأكشاك تقدم خيارات تناسب جميع الأذواق، بما في ذلك الخيارات النباتية.

5. الأسواق المحيطة

تحيط بالساحة أسواق تقليدية مثل سوق السُمارين وسوق الخميس، حيث يمكن شراء الحرف اليدوية مثل السجاد الأمازيغي، المجوهرات الفضية، والجلديات. هذه الأسواق مثالية للتسوق التذكاري والتعرف على الحرف المغربية.


 

الأهمية الثقافية والسياحية لساحة جامع الفنا

رمز التراث الثقافي

تُعد ساحة جامع الفنا متحفًا حيًا للتراث المغربي، حيث تجمع بين الفنون الشعبية، الرواية الشفوية، والموسيقى التقليدية. إنها واحدة من القلائل في العالم التي تحافظ على تقاليد القرون الوسطى في سياق حديث، مما جعلها تستحق لقب "تحفة التراث الشفوي للبشرية" من اليونسكو.

وجهة سياحية عالمية

تجذب الساحة ملايين السياح سنويًا، وتُعد من أكثر الأماكن زيارة في المغرب إلى جانب معالم مثل مسجد الحسن الثاني والمدينة الزرقاء شفشاون. تنوع الأنشطة والأجواء المفعمة بالحياة تجعلها مناسبة لجميع الأعمار والثقافات.

مركز اجتماعي

بالنسبة لسكان مراكش، تُعد الساحة مكانًا للتجمع والتواصل. إنها تعكس روح المدينة، حيث يلتقي السكان المحليون بالسياح في بيئة مفتوحة وودية.

نصائح لزيارة ساحة جامع الفنا

  1. أفضل وقت للزيارة:  زر الساحة في المساء للاستمتاع بأجواء الطعام والعروض.

  2. السلامة: احترس من النشالين، خاصة في الأماكن المزدحمة. احتفظ بأغراضك الثمينة في مكان آمن.

  3. التفاعل مع العروض: إذا التقطت صورًا لسحرة الثعابين أو الموسيقيين، توقع دفع إكرامية صغيرة (5-10 دراهم). اسأل عن السعر قبل التفاعل مع أي عرض.

  4. تذوق الطعام: اختر الأكشاك المزدحمة بالزبائن المحليين لضمان النظافة والجودة. جرب عصير البرتقال الطازج من العربات.

  5. التسوق: المساومة متوقعة في الأسواق المحيطة، لذا تفاوض بلباقة للحصول على أفضل الأسعار.

  6. الملابس: ارتدِ ملابس مريحة ومحتشمة احترامًا للثقافة المحلية، خاصة إذا كنت تخطط لزيارة الأسواق أو المساجد القريبة.

  7. استكشاف المناطق القريبة: بعد الساحة، زر مسجد الكتبية، قصر الباهية، أو حدائق المنارة لتجربة شاملة في مراكش.

ساحة جامع الفنا في السياق العالمي

تُقارن ساحة جامع الفنا بأماكن مثل ميدان التحرير في القاهرة أو ساحة ترافالغار في لندن، لكنها تتميز بتنوعها الثقافي وطابعها الشعبي الفريد. إنها ليست مجرد ساحة، بل مسرح دائم للحياة المغربية، حيث يلتقي التاريخ بالحاضر في مشهد ساحر.

التحديات والحفاظ على الساحة

تواجه ساحة جامع الفنا تحديات مثل الازدحام، التلوث الضوضائي، وتهديد التقاليد الشفوية بسبب التكنولوجيا الحديثة. الجهود المحلية، بدعم من اليونسكو، تركز على حماية الفنون الشعبية من خلال تدريب جيل جديد من الحكواتيين والموسيقيين. كما تُشجع السياحة المستدامة للحفاظ على البيئة والتراث.

 لماذا زيارة ساحة جامع الفنا؟

ساحة جامع الفنا ليست مجرد وجهة سياحية، بل تجربة ثقافية غامرة تأخذك إلى قلب المغرب. إنها مكان يجمع بين الفوضى الجميلة والإبداع الإنساني، حيث يروي كل ركن قصة، وكل صوت لحنًا. سواء كنت تستمع إلى حكاية شعبية، تتذوق طاجين ساخنًا، أو تتجول بين الأسواق، ستجد نفسك مفتونًا بسحر هذه الساحة الخالدة.

في زيارتك القادمة إلى مراكش، اجعل ساحة جامع الفنا محطتك الأولى، ودعها تأخذك في رحلة لا تُنسى إلى عالم من الألوان، النكهات، والقصص!

اشترك في قناتنا على اليوتيوب ❤ × +
ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِين

إرسال تعليق

أحدث أقدم