المدرسة البوعنانية: جوهرة الفن المريني في قلب فاس

بِسْــــــــــــــــمِ اﷲِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 


تعد المدرسة البوعنانية في مدينة فاس واحدة من أبرز المعالم التاريخية والثقافية في المغرب، وهي رمز للعصر الذهبي للدولة المرينية. أسسها السلطان أبو عنان فارس المريني بين عامي 1350 و1355م، وتتميز بتصميمها المعماري الرائع الذي يجمع بين الفن المغربي والأندلسي، مما جعلها تحفة فنية ومعمارية تُدرج ضمن قائمة اليونسكو للتراث العالمي عام 1981 كجزء من مدينة فاس القديمة. في هذا المقال، نأخذكم في جولة شاملة لاستكشاف تاريخ المدرسة البوعنانية، تصميمها المعماري، أهميتها الثقافية، ودورها في الحياة العلمية والدينية.

1. تاريخ تأسيس المدرسة البوعنانية

بدأ بناء المدرسة البوعنانية في 28 رمضان 750هـ (1350م) بأمر من السلطان أبو عنان فارس، وتم الانتهاء منها في آخر شعبان 756هـ (1355م). هناك بعض الخلاف حول مؤسسها، حيث يشير كتاب "الاستقصا في تاريخ المغرب الأقصى" للناصري إلى أن السلطان أبو الحسن، والد أبي عنان، هو من بدأ البناء، لكن أبو عنان أشرف على إكماله ونسبت إليه.

أُسست المدرسة لتكون مركزًا لتعليم العلوم الشرعية واللغوية، وكذلك لإيواء الطلبة، مما جعلها تجمع بين الأدوار التعليمية والدينية والاجتماعية. كانت المدرسة أيضًا بمثابة مسجد جامع، حيث أُقيمت فيها صلاة الجمعة، وهي الوحيدة من نوعها في المغرب التي جمعت بين هذه الوظائف.

تقع المدرسة في الشمال الشرقي من قصبة بوجلود، مشرفة على معظم مدينة فاس، مما يعكس أهميتها كمركز ثقافي وديني في قلب العاصمة المرينية.


2. التصميم المعماري: تحفة فنية

تُعد المدرسة البوعنانية نموذجًا رائعًا للعمارة المرينية، حيث تجمع بين الدقة الهندسية والزخرفة الفنية. تم تصميمها على شكل مستطيل يتوسطه صحن مفتوح مبلط بالرخام، وتحيط به أروقة مزخرفة تؤدي إلى غرف الطلبة. فيما يلي أبرز عناصر التصميم:

أ. الصحن المركزي

  • يتوسط المدرسة صحن مفتوح مبلط بالرخام، كان يحتوي على فسقية لم يبق منها سوى آثار. الصحن محاط بثلاثة أروقة تحملها قواعد ضخمة، وتتصل بغرف الطلبة والمراحيض.

  • تفتح الأروقة على خمسة عقود كبيرة، مما يعطي إحساسًا بالرحابة والانسجام.

ب. المسجد الجامع

  • يشغل المسجد الجزء الجنوبي من المدرسة، وهو مقسم إلى بلاطتين موازيتين للجدار الجنوبي. يتكون من خمسة أقواس تستند إلى ستة أعمدة من الرخام الأبيض المائل للاصفرار.

  • المحراب، الواقع في وسط الجدار الجنوبي، مزين بزخارف غنية تجمع بين النقوش الهندسية والنباتية، مما يعكس التأثير الأندلسي.

  • المئذنة المربعة تقع في الزاوية الشمالية الغربية، وهي مزخرفة بأسلوب فني دقيق.

ج. قاعتي الدروس

  • تحتوي المدرسة على قاعتين متقابلتين مخصصتين لإلقاء الدروس، مفتوحتين على الصحن بسقفين مضلعين على شكل قبة. هذه القاعات كانت تُستخدم لتدريس الفقهاء والعلماء، خاصة أن المنطقة المحيطة بالمدرسة لم تكن تحتوي على مسجد جامع ينافس القرويين أو الأندلس.

  • يعطي موقع القاعتين أهمية للمحور المستعرض، مما يخلق تنظيمًا متقاطعًا يشبه تصميم المدرسة الشماعية في تونس (1229م).


     

د. الساعة المائية (المكانة)

  • تقع الساعة المائية الشهيرة قبالة الباب الرئيسي للمدرسة في زقاق الطالعة الكبيرة. شُيدت في القرن الثالث عشر، وتعمل بنظام دقيق يعتمد على صبيب المياه لتحريك عقارب الساعة وسقوط كرة معدنية لتحديد التوقيت، لكن تقنية تشغيلها لا تزال غامضة.

  • تُعد هذه الساعة دليلاً على التقدم العلمي في العصر المريني، وهي إحدى السمات التي تميز المدرسة عن غيرها.

هـ. غرف الطلبة

  • تحتوي المدرسة على 14 غرفة موزعة على طابقين، مخصصة لإقامة الطلبة. تتصل هذه الغرف بالأروقة عبر عقود مفصصة، وهي مزودة بدرابزين خشبية للحماية.

  • يمكن الوصول إلى الطابق العلوي عبر درجين في الزاوية الشمالية الغربية.

و. الزخارف

  • الجدران مغطاة بفسيفساء الزليج الملونة، وهي تعكس التقاليد المغربية في استخدام الأنماط الهندسية والزهرية.

  • النقوش الجصية والخشبية تزين الأعمدة والأبواب، مع كتابات عربية بخط الثلث تحمل آيات قرآنية وأسماء السلاطين.

  • الرخام المستورد من الأندلس يضيف لمسة فخامة للأرضيات والأعمدة.

3. الأهمية الثقافية والدينية

كانت المدرسة البوعنانية مركزًا للعلم والدين في العصر المريني. لعبت دورًا محوريًا في تكوين النخب الفكرية والإدارية، حيث درّست العلوم الشرعية، الفقه، واللغة العربية. كما كانت مكانًا لإقامة الطلبة القادمين من مختلف أنحاء المغرب وإفريقيا، مما جعلها مركزًا ثقافيًا إقليميًا.

  • الدور الديني: بفضل وجود المسجد الجامع، كانت المدرسة مكانًا لأداء صلاة الجمعة وصلوات العيدين، مما عزز من مكانتها كمركز ديني.

  • الدور التعليمي: كانت المدرسة جزءًا من شبكة المدارس المرينية في فاس، مثل مدرسة العطارين والصفارين، لكنها تميزت بحجمها وفخامتها.

  • الرمزية السياسية: عكست العمارة المرينية، كما تجلت في المدرسة، رؤية السلاطين في الجمع بين الحكم والاستقرار والثقافة، حيث كان بناء المدارس واجبًا على الحاكم.

4. الترميمات والحفاظ على التراث

خضعت المدرسة البوعنانية للعديد من الترميمات عبر التاريخ:

  • في القرن 11 الهجري (القرن 17 الميلادي)، جرت إصلاحات طفيفة.

  • بعد الهزة الأرضية التي ضربت فاس في نهاية القرن 12 الهجري (القرن 18 الميلادي) في عهد السلطان المولى سليمان، تم إصلاح أجزاء كبيرة من المبنى.

  • في القرن العشرين، أُجريت ترميمات هامة للبنية الحاملة والزخارف الجصية والخشبية والزليج.

  • آخر ترميم كبير أُكمل عام 2004، وفي 2017 أُعيد تأهيل المدرسة مع خمس مدارس عتيقة أخرى في فاس، مما سمح باستمرار استخدامها من قبل طلاب جامعة القرويين.

هذه الجهود جعلت المدرسة تحتفظ بجمالها ووظيفتها، حيث لا تزال تستقبل الطلبة والزوار على حد سواء.

5. المدرسة البوعنانية اليوم: وجهة سياحية وثقافية

اليوم، تُعد المدرسة البوعنانية واحدة من أهم معالم السياحة في فاس، حيث تجذب آلاف الزوار سنويًا لاستكشاف جمالها المعماري وتاريخها العريق. يمكن زيارتها يوميًا من الساعة 9:00 صباحًا حتى 6:00 مساءً، باستثناء أوقات الصلاة وصباح الجمعة.

  • تجربة الزوار: يصف السياح تجربتهم في المدرسة بأنها "روحية وأصيلة"، حيث يتيح الموقع فرصة التعرف على التراث المغربي والإسلامي.

  • الأنشطة: يمكن للزوار مشاهدة المدخل المقبب، الصحن المفتوح، غرف الطلبة، والساعة المائية، بالإضافة إلى التقاط الصور للزخارف المذهلة.

6. مقارنة مع المدرسة البوعنانية في مكناس

هناك مدرسة أخرى تحمل اسم البوعنانية في مكناس، أسسها السلطان أبو الحسن المريني وأكملها ابنه أبو عنان حوالي 1345م. تتميز هذه المدرسة بزخارفها الغنية على الخشب والجبس والزليج، لكنها أصغر حجمًا ولا تحتوي على مسجد جامع مثل نظيرتها في فاس.

بينما تشترك المدرستان في الأسلوب المريني، فإن مدرسة فاس تتفوق بحجمها، وظيفتها الدينية، والساعة المائية التي تجعلها فريدة.

المدرسة البوعنانية في فاس ليست مجرد مبنى تاريخي، بل هي شاهد حي على الإبداع المريني في الفن والعمارة، وعلى التزام الدولة المرينية بتطوير العلم والثقافة. بفضل تصميمها الرائع، زخارفها الدقيقة، ودورها المزدوج كمدرسة ومسجد، تظل واحدة من أجمل المعالم في المغرب. سواء كنت من عشاق التاريخ، الفن، أو السياحة الثقافية، فإن زيارة المدرسة البوعنانية ستأخذك في رحلة عبر الزمن إلى قلب العصر الذهبي لفاس. هل زرت هذه المعلمة من قبل؟ شاركنا تجربتك في التعليقات!

اشترك في قناتنا على اليوتيوب ❤ × +
ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِين

إرسال تعليق

أحدث أقدم