على بعد حوالي 10 كيلومترات من مدينة أزرو، في قلب جبال الأطلس المتوسط، تقع قرية زاوية بن صميم، موطن واحدة من أكثر المعالم التاريخية إثارة للجدل في المغرب: مستشفى بن صميم. هذا المستشفى، الذي شُيد عام 1948 خلال فترة الاستعمار الفرنسي، كان يومًا ما أكبر مصحة لعلاج الأمراض الصدرية في إفريقيا. لكنه اليوم مجرد أطلال مهجورة تحيط بها الغابات، تروي قصة إهمال طويلة وتثير تساؤلات حول مصير التراث الصحي في المغرب. في هذا المقال، سنستعرض تاريخ مستشفى بن صميم، أهميته السابقة، أسباب إغلاقه، وواقعه الحالي، مع لمحة عن الأساطير التي تحيط به.
تاريخ مستشفى بن صميم: بداية طموحة
شُيد مستشفى بن صميم عام 1948 في قرية زاوية بن صميم، التابعة لإقليم إفران بجهة فاس-مكناس، على مساحة تقدر بـ35 هكتارًا. اختيرت المنطقة بعناية بفضل هوائها النقي ومناخها شبه الرطب، مما جعلها مثالية لعلاج الأمراض الصدرية، وخاصة مرض السل الذي كان يشكل خطرًا كبيرًا في تلك الفترة. وقد أشرف على تصميمه المهندس المعماري الفرنسي جاك ساج بالتعاون مع المهندس هينري روسان، بعد دراسة دقيقة للموارد الطبيعية للمنطقة.
كانت فكرة بناء المستشفى مستوحاة من قصة موريس بونجان، وهو مواطن فرنسي (يُقال إنه طبيب أو أحد الأثرياء) أُصيب بمرض السل. وبعد أن فقد الأطباء الأمل في شفائه، استقر في منطقة بن صميم، حيث تحسنت حالته الصحية بفضل الهواء النقي والمنابع المائية. تقدم بونجان بطلب إلى السلطات الفرنسية لتشييد مصحة في المنطقة، فكانت بداية هذا المشروع الضخم.
بُني المستشفى على شكل حرف T، ويتألف من 8 طوابق تحتوي على أكثر من 400 غرفة، تشمل غرف المرضى، غرف العمليات، قاعات الجراحة، الحجر الصحي، المطبخ، قاعة الطعام، قاعة استقبال، وحتى سينما ومصاعد. كما زُود بالكهرباء، الماء الساخن، وأحدث الأجهزة الطبية في ذلك الوقت، مما جعله واحدًا من أكثر المستشفيات تقدمًا في العالم آنذاك. أنفقت السلطات الفرنسية مبلغًا يُقدر بـ87.854.918 فرنك على هذا المشروع، وهو ما يعكس طموح الاستعمار الفرنسي في جعل المستشفى نموذجًا للصحة العمومية في المغرب.
في عام 1956، زار الملك محمد الخامس المستشفى لتفقد أحوال المرضى، مما يبرز أهميته كمؤسسة صحية بارزة قبل الاستقلال. وقد وصف الدكتور أوجالو، مدير التطهير العمومي الفرنسي، تأسيس المستشفى بأنه "حلقة مهمة ومتطورة في تاريخ الصحة العمومية بالمغرب".
الإغلاق والإهمال: من معلمة صحية إلى أطلال
بعد استقلال المغرب عام 1956، تولت وزارة الصحة المغربية إدارة مستشفى بن صميم. ومع ذلك، بدأت المصحة تواجه تحديات تدريجية، خاصة مع انخفاض معدلات الإصابة بمرض السل بفضل التقدم الطبي. في عام 1973، تم إغلاق المستشفى بشكل نهائي، وبررت الوزارة ذلك بانخفاض نسبة الوفيات بداء السل في المغرب.
بعد الإغلاق، تحولت المباني إلى مركز استجمام لموظفي وزارة الصحة، لكن هذه الفترة شهدت نهبًا وتخريبًا للتجهيزات الطبية. بحلول منتصف الثمانينيات، استُخدم المستشفى كمعسكر للتدريب، قبل أن يُهجر تمامًا ويصبح أطلالًا مهجورة. في الثمانينيات، أصبح المستشفى تابعًا لوزارة الداخلية، وفي عام 2015، تم تفويته لمستثمرين أجانب لتحويله إلى مشروع صحي وسياحي، لكن هذا المشروع لم ير النور حتى اليوم.
في عام 2022، أعلن وزير الصحة خالد آيت الطالب أن المستشفى لم يعد صالحًا لإعادة التأهيل كوحدة استشفائية بسبب طول فترة الإغلاق وتدهور البنية التحتية، مما أنهى آمال السكان المحليين في إعادة إحيائه.
الأساطير والقصص: مستشفى الأشباح
مع هجران المستشفى، بدأت تنتشر قصص وأساطير حول كونه مسكونًا بالجن والأشباح. إحدى القصص الشائعة تروي أن ثلاثة شبان دخلوا المستشفى لاستكشافه، لكنهم فوجئوا بتكسير زجاج سيارتهم وهجوم بالحجارة من الغابة المحيطة، مصحوبًا بأصوات بكاء ونواح. هذه القصص جذبت العديد من "اليوتيوبرز" والباحثين عن الإثارة، الذين زاروا الموقع لتصوير مقاطع فيديو، مما زاد من شهرته كمكان "مخيف".
على الرغم من أن هذه القصص قد تكون مجرد خرافات شعبية، إلا أنها تعكس الفراغ الذي تركه المستشفى في الذاكرة الجماعية للمنطقة، حيث تحول من رمز للتقدم الطبي إلى رمز للإهمال والغموض.
الواقع الحالي: دعوات لإعادة التأهيل
خلال جائحة كوفيد-19، طالب العديد من المواطنين والجمعيات بإعادة تأهيل مستشفى بن صميم لاستخدامه في علاج الأمراض التنفسية، خاصة أنه صُمم أصلًا لهذا الغرض. ومع ذلك، رفضت وزارة الصحة هذه المطالب، مشيرة إلى أن المبنى أصبح غير صالح للاستخدام الطبي.
تظل زاوية بن صميم منطقة ذات إمكانيات سياحية وطبيعية كبيرة، حيث تشتهر بمنبعها المائي (الذي تُسوق مياهه تحت اسم "عين إفران") وبسد ميشليفن الذي يدعم الزراعة المحلية. يرى البعض أن إعادة استغلال موقع المستشفى، حتى لو لم يكن كمرفق طبي، يمكن أن يعزز السياحة في المنطقة، سواء كمنتجع أو مركز ثقافي.
لماذا يهم مستشفى بن صميم؟
الأهمية التاريخية: كان المستشفى نموذجًا رائدًا للصحة العمومية في المغرب، وشاهدًا على طموحات الاستعمار الفرنسي في المجال الطبي.
الإهمال المؤسف: يُعد المستشفى مثالًا صارخًا لتدهور البنية التحتية الصحية بعد الاستقلال، حيث تم التفريط في منشأة كان يمكن أن تظل مفيدة.
الإمكانيات الضائعة: موقع المستشفى الإستراتيجي وسط غابة البلوط الأخضر يجعله فرصة لتطوير مشاريع سياحية أو ثقافية، لكنها لم تُستغل بعد.
نصائح للزوار
الوصول: يقع المستشفى على الطريق الثانوية بين أزرو وإفران، ويمكن الوصول إليه بالسيارة أو عبر جولات سياحية منظمة.
السلامة: المبنى مهجور ومتضرر، لذا يُنصح بتوخي الحذر وتجنب استكشاف الأدوار العليا دون مرشد.
التصوير: الموقع مثالي لمحبي التصوير الفوتوغرافي، خاصة مع الغابات المحيطة والإطلالات الجبلية.
السياحة المحلية: استغل زيارتك لاستكشاف معالم أخرى في المنطقة، مثل منبع بن صميم، جبل ميشليفن، أو مدينة إفران الساحرة.
مستشفى بن صميم ليس مجرد مبنى مهجور، بل هو رمز لفترة ذهبية في تاريخ الصحة العمومية بالمغرب، وفي الوقت ذاته تذكير مؤلم بما يمكن أن يحدث عندما تُهمل المعالم التاريخية. بين أطلاله، لا تزال قصص المرضى الذين عولجوا هناك، والأطباء الذين عملوا فيه، والأحلام التي رافقت تأسيسه، تتردد كصدى بعيد. ربما حان الوقت لإعادة النظر في مصير هذا المعلم، سواء بتحويله إلى وجهة سياحية أو مركز ثقافي يحفظ ذكراه. فهل ستظل أشباح بن صميم هي الوحيدة التي تحرس هذا المكان، أم أن هناك أملًا في إحيائه من جديد؟