تعتبر مدينة مولاي إدريس زرهون واحدة من أجمل المدن الجبلية في المغرب، حيث تجمع بين التاريخ العريق، الطبيعة الخلابة، والروحانية العميقة. تقع المدينة على بعد حوالي 25 كيلومترًا من مدينة مكناس و3 كيلومترات من الموقع الأثري وليلي، مما يجعلها وجهة مثالية لعشاق التاريخ والسياحة الثقافية. سميت المدينة على اسم مولاي إدريس الأول، مؤسس الدولة الإدريسية، وتُعد أول عاصمة إسلامية في المغرب وشمال إفريقيا. في هذا المقال، نأخذكم في جولة لاستكشاف تاريخ المدينة، معالمها السياحية، وأبرز مجالات عمل سكانها.
التاريخ: مهد دولة الادارسة في المغرب
تأسست مدينة مولاي إدريس زرهون في أواخر القرن الثامن الميلادي (788 م) على يد إدريس بن عبد الله، المعروف بمولاي إدريس الأول، وهو سليل النبي محمد صلى الله عليه وسلم. فرّ إدريس الأول من مكة بعد معركة فخ سنة 172 هـ، هربًا من العباسيين، واستقر في مدينة وليلي التي كانت آنذاك موطن قبيلة أوربة الأمازيغية. بفضل نسبه الشريف وذكائه السياسي، استطاع كسب تأييد القبائل المحلية، وأسس دولة الادارسة التي كانت ثاني دولة إسلامية مستقلة عن الخلافة في المشرق بعد الامارة الاموية في الاندلس. اختار إدريس الأول جبل زرهون لبناء مدينته بسبب موقعها الاستراتيجي المحصن طبيعيًا، مما جعلها درعًا دفاعيًا ضد أي غزو.
بعد وفاة إدريس الأول سنة 791 م، نقل ابنه إدريس الثاني العاصمة إلى فاس، لكن مولاي إدريس زرهون احتفظت بمكانتها الدينية والروحانية، حيث يوجد ضريح مؤسسها الذي يُعتبر مزارًا مقدسًا يجذب آلاف الزوار سنويًا. خلال القرن السابع عشر، أولى السلطان العلوي مولاي إسماعيل اهتمامًا كبيرًا بالمدينة، حيث أمر بتجديد الضريح وإنشاء العديد من المرافق كالمساجد، المدارس القرآنية، والقنوات المائية.
السياحة: مزيج من الروحانية والتاريخ
تُعد مولاي إدريس زرهون وجهة سياحية فريدة تجمع بين الإرث التاريخي، الجمال الطبيعي، والأجواء الروحانية. إليكم أبرز المعالم السياحية في المدينة:
1. ضريح مولاي إدريس الأول
يُعتبر الضريح قلب المدينة النابض، وهو مزار ديني يحج إليه المغاربة من مختلف المناطق، خاصة خلال موسم مولاي إدريس السنوي الذي يُقام في نهاية شهر أغسطس. يستمر الموسم لأربعة أسابيع ويشهد توافد الزوار حاملين الهدايا كالأضحيات والأثواب الخضراء لتزيين القبة. يُعد هذا الموسم بمثابة "حج صغير" للفقراء الذين لا يستطيعون زيارة مكة، ويصاحبه عروض فولكلورية من فرق مثل عيساوة وحمادشة.
2. المدينة القديمة
تتميز المدينة بأزقتها الضيقة المتعرجة ومبانيها التقليدية الملتصقة بالجبل، مما يمنحها سحرًا خاصًا. التجول في الأزقة يكشف عن جمال العمارة المغربية التقليدية، مع أبواب مزخرفة وجدران مطلية باللون الأبيض. توفر بعض النقاط المرتفعة، المعروفة بـ"المدرجات"، إطلالات بانورامية خلابة على المدينة والسهول الخضراء المحيطة بها.
3. الموقع الأثري وليلي
على بعد 3 كيلومترات من المدينة، تقع مدينة وليلي الأثرية، وهي إحدى أهم المواقع الرومانية في المغرب. كانت وليلي مركزًا إداريًا وتجاريًا في العصر الروماني، وتضم اليوم بقايا معابد، أقواس، وحمامات رومانية. الزيارة إلى وليلي تُعد مكملة لرحلة مولاي إدريس زرهون، مدينة وليلي سبق لنا ان كتبنا عنها في مقال سابق
4. معاصر الزيتون والأسواق التقليدية
تشتهر المنطقة بإنتاج زيت الزيتون عالي الجودة، ويمكن للزوار زيارة معاصر الزيتون التقليدية، خاصة خلال موسم القطاف في نوفمبر. الأسواق المحلية، مثل ساحة بئر انزران، تقدم أطباقًا تقليدية كالطاجين والكفتة المغربية بنكهة زرهونية مميزة. كما يمكن شراء تذكارات كالعطور التقليدية (ماء الزهر، الزعتر) والحلويات المحلية.
5. الطبيعة الخلابة
تحيط بالمدينة حقول الزيتون، أشجار التين، والخروب، مما يجعلها مثالية لمحبي الطبيعة والمشي لمسافات طويلة. جبل زرهون يوفر إطلالات رائعة على المناطق المحيطة، بما في ذلك مدينتي فاس ومكناس.
مجالات عمل سكان مولاي إدريس زرهون
يعتمد اقتصاد المدينة بشكل رئيسي على الفلاحة، السياحة، والتجارة المحلية. إليكم نظرة على أبرز مجالات العمل:
1. الفلاحة
تُعد الفلاحة العمود الفقري لاقتصاد المدينة، حيث تنتشر أشجار الزيتون بكثافة في المناطق المحيطة. يعمل العديد من السكان في زراعة الزيتون وقطافه، خاصة خلال الفترة من نوفمبر إلى ديسمبر. معاصر الزيتون التقليدية توفر فرص عمل موسمية، لكنها محدودة. كما يزرع السكان التين والخروب، مما يساهم في دخلهم.
2. السياحة
تُشكل السياحة مصدر دخل مهم، خاصة خلال موسم مولاي إدريس. يعمل بعض السكان كمرشدين سياحيين محليين أو في دور الضيافة والفنادق الصغيرة، مثل "الرياضات" التقليدية التي تقدم إقامة بطابع مغربي أصيل. المطاعم المحلية، التي تقدم أطباقًا كالكفتة والطاجين، توفر فرص عمل للشباب.
3. التجارة والحرف التقليدية
تُعد التجارة البسيطة مصدر رزق للعديد من الأسر، حيث يبيع السكان المنتجات المحلية كزيت الزيتون، العسل، والحلويات التقليدية للزوار. كما يعمل البعض في الحرف اليدوية، مثل صناعة الأواني الفخارية والمنسوجات، التي تُباع في الأسواق المحلية.
4. دور الحمير في الاقتصاد
نظرًا لوعورة تضاريس المدينة وصعوبة استخدام السيارات في الأزقة الضيقة، تُعتبر الحمير وسيلة النقل الأساسية. يعتمد السكان على الحمير لنقل البضائع، الأثقال، وحتى المسافرين، مما يجعل تربية الحمير وتأجيرها مصدر دخل لبعض العائلات.
تحديات وآفاق
على الرغم من مؤهلاتها السياحية والتاريخية، تعاني مولاي إدريس زرهون من الإهمال وقلة الاستثمار. البنية التحتية تحتاج إلى تطوير، خاصة في مجال الرياضة والترفيه، حيث أشار بعض السكان إلى الحاجة إلى ملعب كرة قدم صالح للاستخدام. كما أن فرص العمل الموسمية في الفلاحة لا تكفي لتلبية احتياجات السكان الذين يبلغ عددهم حوالي 12,000 نسمة. ومع ذلك، فإن الاهتمام المتزايد بالسياحة الداخلية والترويج للمدينة كوجهة ثقافية يمكن أن يفتح آفاقًا جديدة للتنمية.
مدينة مولاي إدريس زرهون هي أكثر من مجرد وجهة سياحية؛ إنها رحلة عبر التاريخ، الروحانية، والبساطة. سواء كنت تبحث عن استكشاف الإرث الإسلامي، الاستمتاع بالطبيعة الخلابة، أو تذوق النكهات المغربية الأصيلة، فإن هذه المدينة الصغيرة ستمنحك تجربة لا تُنسى. ننصح بزيارتها، خاصة إذا كنت في مكناس أو فاس، لتكتشف بنفسك سحر زرهون وكرم أهلها.
هل زرت مولاي إدريس زرهون من قبل؟ شاركنا تجربتك في التعليقات!