سجلماسة الأثرية: مدينة الذهب المنسية في قلب تافيلالت

بِسْــــــــــــــــمِ اﷲِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 


في قلب واحة تافيلالت، بالقرب من مدينة الريصاني الحديثة، تقبع سجلماسة، المدينة الأثرية التي كانت يومًا بوابة المغرب إلى تجارة الصحراء الكبرى. تأسست سجلماسة في القرن الثامن الميلادي، وأصبحت مركزًا تجاريًا وثقافيًا يربط بين شمال إفريقيا وجنوب الصحراء، حيث كانت تُعرف بـ"مدينة الذهب" بفضل دورها في تجارة الذهب والملح. على الرغم من أن أنقاضها اليوم تكاد تذوب في رمال الصحراء، إلا أن سجلماسة تظل شاهدة على تاريخ المغرب العريق. في هذا المقال، سنستعرض تاريخ المدينة، معالمها الأثرية، أسباب اندثارها، والمناطق المجاورة التي يمكن زيارتها.

تاريخ سجلماسة العريق

تأسست سجلماسة عام 757م (140هـ) على يد بني مدرار، وهي قبيلة أمازيغية اعتنقت المذهب الصفري (فرقة من الخوارج). اختير موقعها في واحة تافيلالت بسبب وفرة المياه من نهري زيز وغريس، مما جعلها مركزًا زراعيًا وتجاريًا مزدهرًا. سرعان ما أصبحت سجلماسة نقطة التقاء للقوافل التجارية القادمة من تمبكتو وغانا، حاملة الذهب، الملح، والعبيد، مقابل المنسوجات والأسلحة من الشمال.

العصر الإدريسي

في القرن التاسع، سيطر الأدارسة على سجلماسة، مما عزز مكانتها كممر. خلال هذه الفترة، أصبحت المدينة مركزًا لنشر الإسلام والثقافة العربية في المنطقة، وكانت موطنًا للعلماء والتجار.


العصر المرابطي والموحدي

بلغت سجلماسة ذروة مجدها خلال عهد المرابطين (القرن 11) والموحدين (القرن 12)، حيث كانت مركزًا إداريًا وتجاريًا رئيسيًا. وصفها الجغرافي العربي الإدريسي بأنها مدينة مزدهرة بأسواقها النابضة بالحياة ومبانيها الفخمة. كما كانت مركزًا للتصوف والعلم الديني.

العصر العلوي

في القرن السابع عشر، أصبحت سجلماسة مهد الدولة العلوية، حيث بدأ مولاي علي الشريف، مؤسس السلالة، حكمه من تافيلالت. ومع ذلك، بدأت المدينة تفقد أهميتها التجارية بسبب تغير مسارات القوافل والحروب الداخلية.

الاندثار

بحلول القرن الثامن عشر، بدأت سجلماسة تتدهور بسبب الصراعات السياسية، الجفاف، وتغير المناخ الذي أثر على إمدادات المياه. دُمرت المدينة جزئيًا خلال تمردات القرن الثامن عشر، وتحولت تدريجيًا إلى أنقاض، تاركة وراءها بقايا أسوارها ومبانيها.

المعالم الأثرية في سجلماسة

على الرغم من أن الزمن والعوامل الطبيعية أثرا على سجلماسة، إلا أن بقاياها لا تزال تروي قصصًا عن ماضيها المجيد. من أبرز معالمها:

1. الأسوار الطينية

تمتد أسوار سجلماسة المبنية من الطوب اللبن على مساحة واسعة، وهي تعكس الهندسة المعمارية الأمازيغية-الإسلامية. بعض أجزائها لا تزال قائمة، رغم تآكلها بفعل الرياح والأمطار.


2. القنوات المائية

كشفت الحفريات عن نظام ري متقدم يتضمن قنوات مائية (سواقي) كانت توزع المياه من نهري زيز وغريس إلى الحقول والمباني، مما يعكس المهارة الهندسية لسكان المدينة.

3. المسجد الأثري

بقايا المسجد الرئيسي في سجلماسة، الذي يعود إلى القرن التاسع، تُظهر تصميمًا بسيطًا مع محراب مزخرف. كان المسجد مركزًا للتعليم الديني والصلوات الجماعية.

4. الأحياء السكنية والإدارية

تشمل الأنقاض بقايا منازل ومبانٍ إدارية، بعضها مزين بزخارف جصية. تُظهر هذه البقايا التخطيط العمراني المتقن الذي ميز المدينة.

5. السوق التاريخي

كانت أسواق سجلماسة مركزًا لتبادل البضائع، ولا تزال بعض الهياكل تشير إلى مواقع الأسواق التي كانت تضم تجارًا من مختلف أنحاء إفريقيا والشرق الأوسط.

أسباب اندثار سجلماسة

  • التغيرات البيئية: جفاف الأنهار وتغير المناخ أثرا على الزراعة والإمدادات المائية.

  • الصراعات السياسية: الحروب بين السلالات الحاكمة،  أدت إلى تدمير أجزاء من المدينة.

  • تغير مسارات التجارة: ظهور موانئ جديدة على الساحل المغربي قلّص من أهمية سجلماسة كمركز تجاري.

  • الإهمال الحديث: نقص التمويل والترويج السياحي جعل الموقع يبقى بعيدًا عن أنظار الزوار.

المناطق المجاورة لزيارتها

تقع سجلماسة في قلب منطقة تافيلالت، وهي محاطة بوجهات سياحية تجمع بين الطبيعة والثقافة:

1. مدينة الرشيدية

تبعد الرشيدية حوالي 30 كم عن سجلماسة، وهي مركز إداري حديث يضم أسواقًا تقليدية ومتحفًا صغيرًا عن تاريخ تافيلالت. يمكن للزوار تجربة الأطباق المحلية مثل المدفونة.

2. مرزوكة وكثبان عرق الشبي

على بعد حوالي 50 كم، تقع مرزوكة، وهي بوابة إلى كثبان عرق الشبي الصحراوية. يمكن للزوار الاستمتاع برحلات التخييم، ركوب الجمال، ومشاهدة غروب الشمس.

3. قصر السوق (قصر المهدي)

في قرية قصر السوق القريبة، يوجد قصر تاريخي يعود إلى القرن التاسع عشر، يعكس العمارة التقليدية لتافيلالت.

4. واحة تافيلالت

تُعد واحة تافيلالت نفسها وجهة سياحية، حيث تضم بساتين النخيل، القرى الأمازيغية، والأسواق الأسبوعية التي تعكس الحياة التقليدية.

نصائح لزيارة سجلماسة

  • أفضل وقت للزيارة: الخريف (سبتمبر إلى نوفمبر) أو الربيع (مارس إلى مايو) لتجنب حرارة الصيف وبرودة الشتاء.

  • كيفية الوصول: من مراكش أو فاس، يمكن السفر بالحافلة أو السيارة إلى الرشيدية (حوالي 6-8 ساعات)، ثم استئجار سيارة أو سيارة أجرة إلى رصانة (30 كم). الطريق معبد، لكن قد تحتاج سيارة دفع رباعي للوصول إلى الموقع الأثري.

  • الإقامة: تتوفر فنادق ودور ضيافة في الرشيدية أو مرزوكة. لتجربة أصيلة، جرب التخييم في عرق الشبي.

  • ما يجب إحضاره: واقي شمس، قبعة، مياه، وأحذية مريحة للتجول في الموقع الرملي. اصطحب مرشدًا محليًا لفهم تاريخ المدينة، حيث اللوحات الإرشادية محدودة.

  • حالة الموقع: الموقع في طور الترميم بتمويل من الحكومة المغربية (20 مليون دولار مُخصصة حديثًا)، لكن بعض المناطق لا تزال غير مؤهلة سياحيًا.


سجلماسة الأثرية ليست مجرد أنقاض، بل هي رمز لعصر ذهبي في تاريخ المغرب، حيث التقى التجار، العلماء، والمتصوفة في مدينة كانت قلب تجارة الصحراء. من أسوارها الطينية إلى قنواتها المائية، تحكي سجلماسة قصة الازدهار والاندثار، وتدعو الزوار لاكتشاف جمالها الخفي. إذا كنت من عشاق التاريخ أو تبحث عن وجهة بعيدة عن المسارات السياحية التقليدية، فإن سجلماسة هي الخيار المثالي. خطط لزيارتك إلى تافيلالت، واستعد لرحلة عبر الزمن إلى مدينة الذهب المنسية!

اشترك في قناتنا على اليوتيوب ❤ × +
ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِين

إرسال تعليق

أحدث أقدم