في قلب جبال الأطلس الكبير، على بُعد حوالي 100 كيلومتر من مدينة مراكش، تقع قرية تنمل الصغيرة، التي تُعد مهد الحضارة الموحدية، واحدة من أعظم الإمبراطوريات التي حكمت المغرب الكبير والأندلس خلال القرن الثاني عشر الميلادي. تنمل ليست مجرد قرية جبلية، بل هي رمز تاريخي وحضاري، حيث انطلقت الدعوة الموحدية على يد محمد بن تومرت، وشُيد فيها مسجد تنمل الأعظم، أحد أهم المعالم المعمارية في تاريخ المغرب. في هذا المقال، نأخذكم في رحلة عبر تاريخ تنمل، أهميتها الحضارية، ودورها كمركز روحي وسياسي للدولة الموحدية.
تنمل: الموقع والمعنى
تعني كلمة "تنمل" بالأمازيغية "المزار" أو "المحج"، وهو اسم يعكس قدسية المكان الذي كان يجتمع فيه القبائل الأمازيغية لعقد العهود والمواثيق قبل ظهور الموحدين. تقع تنمل في إقليم الحوز، وسط جبال الأطلس الكبير، مما جعلها موقعًا استراتيجيًا حصينًا. اختارها محمد بن تومرت عام 1121م كقاعدة لدعوته الإصلاحية، مستفيدًا من طبيعتها الجبلية التي وفرت الحماية ضد خصومه، خاصة دولة المرابطين.
كانت تنمل مركزًا للقبائل الأمازيغية من مصمودة، التي شكلت العمود الفقري للحركة الموحدية. موقعها على خط التماس مع مراكش، عاصمة المرابطين، جعلها نقطة انطلاق مثالية للثورة السياسية والدينية التي قادها ابن تومرت.
محمد بن تومرت وتأسيس الحركة الموحدية
وصل محمد بن تومرت، الملقب بـ"المهدي"، إلى تنمل عام 1121م بعد رحلة طويلة للطلب العلمي في المشرق، حيث تأثر بالفكر الأشعري والفقه المالكي. دعا ابن تومرت إلى تنقية العقيدة الإسلامية من الشوائب، وتوحيد الله توحيدًا خالصًا، وهو ما أكسب حركته اسم "الموحدين". في تنمل، أسس ابن تومرت نواة الحركة الموحدية، حيث بايعته قبائل مصمودة كمهدي، وبدأ في تنظيم جيشه وتعليم أتباعه مبادئ الدعوة.
كان ابن تومرت قائدًا كاريزميًا، يمتلك قدرة فائقة على الحجاج والإقناع، مما ساعده على كسب تأييد القبائل. لكنه واجه مقاومة شديدة من المرابطين، الذين اعتبروه خطرًا على سلطتهم. توفي ابن تومرت عام 1130م في تنمل، تاركًا قيادة الحركة لتلميذه عبد المؤمن بن علي، الذي أكمل المسيرة وأسس الدولة الموحدية رسميًا.
مسجد تنمل: رمز الحضارة الموحدية
يُعد مسجد تنمل الأعظم، الذي شيده الخليفة عبد المؤمن بن علي الكومي حوالي 1153م، أحد أهم المعالم المعمارية في تاريخ المغرب. يُعرف المسجد بتصميمه البسيط والمتين، الذي يعكس مبادئ الموحدين في الزهد والتقشف، حيث تجنبوا الزخرفة المفرطة التي اشتهر بها المرابطون. يتميز المسجد بصومعته المستطيلة الفريدة، التي تُعد نموذجًا أصليًا للفن المعماري الموحدي.
يتكون المسجد من صحن مكشوف وثلاثة أبواب متناظرة في كل جدار جانبي، مع محراب بسيط ومئذنة ترتفع فوق قاعدة مستطيلة بطول 9.5 أمتار وعرض 5.5 أمتار. بُني المسجد ليكون مركزًا روحيًا وسياسيًا، حيث كان الخلفاء الموحدون يزورونه لإحياء المواسم الدينية وتنظيم التجمعات السلطانية. نظرًا لأهميته التاريخية، أُدرج المسجد ضمن لائحة التراث العالمي لليونسكو عام 1995.
للأسف، تعرض المسجد لأضرار كبيرة جراء زلزال الحوز في 8 سبتمبر 2023، مما أثر على هيكله وصومعته. لكن جهود إعادة الترميم بدأت بالفعل، حيث زار وزيرا الثقافة والأوقاف ورش الترميم في يناير 2024 للإشراف على إعادة تأهيل هذا الصرح التاريخي.
الدولة الموحدية: إرث تنمل
انطلقت الدولة الموحدية من تنمل لتُصبح إمبراطورية تمتد من المغرب إلى الأندلس وتونس، تحت قيادة عبد المؤمن بن علي الكومي (1130-1163م). أطاح الموحدون بدولة المرابطين عام 1147م، وبسطوا سيطرتهم على بلاد المغرب الكبير بحلول 1159م، ثم الأندلس بحلول 1172م. تميزت الدولة الموحدية بإنجازات حضارية كبيرة، منها:
العمارة: شيد الموحدون معالم مثل جامع إشبيلية ومنارة الكتبية في مراكش، و مسجد حسان بالرباط مستلهمين الطراز البسيط لمسجد تنمل.
الفكر والفلسفة: ازدهرت الساحة الفكرية بفلاسفة مثل ابن رشد وابن طفيل، الذين ساهموا في نقل العلوم إلى أوروبا.
التنظيم السياسي: أسس الموحدون نظامًا إداريًا مركزيًا قويًا، عزز وحدة الأراضي التي حكموها.
رغم هذه الإنجازات، بدأت الدولة في التدهور في القرن الثالث عشر بسبب الثورات القبلية والانقسامات الداخلية، حتى انتهى حكمها عام 1269م على يد المرينيين.
أهمية تنمل الحضارية
تُعد تنمل رمزًا للاستمرارية التاريخية للمغرب، حيث كانت مركزًا لتأسيس دولة حكمت قارتين لأكثر من قرن. يُعبر مسجد تنمل عن عمق الحضارة الموحدية، التي جمعت بين الروحانية والقوة السياسية. كما تُبرز تنمل دور القبائل الأمازيغية، خاصة مصمودة، في تشكيل تاريخ المغرب.
تُظهر تنمل أيضًا التأثير الثقافي للموحدين، الذين ساهموا في نشر العلوم والفنون في المغرب والأندلس. على سبيل المثال، كان الشاعر أبو العباس الجراوي يُلقي قصائده أمام الخليفة عبد المؤمن، مُخلدًا قيم الموحدين وروحانيتهم.
التحديات والحفاظ على الإرث
تعرضت تنمل ومسجدها للإهمال عبر القرون، خاصة بعد تدمير المرينيين للقرية في القرن الثالث عشر. زلزال الحوز عام 2023 زاد من التحديات، حيث تضرر المسجد بشكل كبير، مما دفع السلطات المغربية إلى إطلاق برنامج استعجالي لترميم المعالم التاريخية، بما في ذلك تنمل. هذه الجهود تُظهر التزام المغرب بالحفاظ على تراثه الحضاري.
نصائح للزوار
زيارة مسجد تنمل: استمتع بالهندسة الموحدية البسيطة، وتأمل الصومعة المستطيلة الفريدة. تأكد من التحقق من حالة الموقع بعد أعمال الترميم.
استكشاف الطبيعة: جبال الأطلس الكبير توفر مناظر خلابة ومسارات للمشي، مثالية لعشاق الطبيعة.
التعرف على التاريخ: زر المتاحف المحلية في مراكش، مثل متحف القصبة، لفهم المزيد عن الموحدين.
التواصل مع السكان: سكان تنمل يحتفظون بقصص وروايات عن تاريخ المنطقة، فلا تفوت فرصة الحديث معهم.
تنمل ليست مجرد قرية في جبال الأطلس، بل هي مهد الحضارة الموحدية التي شكلت تاريخ المغرب والأندلس. من خلال مسجد تنمل الأعظم، ودعوة محمد بن تومرت، وإنجازات عبد المؤمن، تظل تنمل رمزًا للروحانية، القوة، والإبداع. رغم التحديات التي واجهتها، تستمر تنمل في إلهام الزوار والمؤرخين بقصتها العظيمة. إذا كنت تخطط لزيارة المغرب، فلا تفوت فرصة استكشاف هذا الموقع التاريخي. شاركنا في التعليقات رأيك عن تنمل، أو أخبرنا عن تجربتك في زيارة جبال الأطلس!