
مقدمة عن الدولة الإدريسية
تُعد الدولة الإدريسية (172-375هـ/789-985م) أول دولة إسلامية مستقلة في المغرب الأقصى، أسسها إدريس بن عبد الله، المعروف بإدريس الأول، بعد هروبه إثر هزيمة العلويين في معركة فخ قرب مكة المكرمة عام 169هـ (786م). استقر إدريس في مدينة وليلي، ثم أسس مدينة فاس التي أصبحت مركزًا لدولته. استمرت الدولة الإدريسية في الحكم لما يقرب من قرنين، لكنها واجهت تحديات داخلية وخارجية أدت إلى ضعفها تدريجيًا، وصولاً إلى نهايتها مع مقتل آخر حكامها، الحسن بن كنون.
الحسن بن كنون: آخر الحكام الإدريسيين
كان الحسن بن القاسم كنون، المعروف أيضًا بـ"الحسن الحجام"، آخر حاكم إدريسي تولى الحكم عام 954م بعد أخيه أبو العيش أحمد بن كنون. جاءت فترة حكمه في وقت كانت فيه الدولة الإدريسية تعاني من الانقسامات الداخلية والضغوط الخارجية من الأمويين في الأندلس والفاطميين في شمال إفريقية. كانت سيطرة الحسن مقتصرة على مناطق محدودة مثل طنجة وبعض المناطق الشمالية، حيث فقد الأدارسة الكثير من نفوذهم السابق.
في عام 971م، استغل الحسن بن كنون وصول بلقين بن زيري الصنهاجي إلى المغرب الأقصى للثأر من قبائل زناتة التي قتلت والده. أعلن الحسن خلع طاعة الأمويين في الأندلس وانضم إلى بلقين، مما مكنه من استعادة طنجة. هذا التحالف، رغم نجاحه المؤقت، وضع الحسن في مواجهة مباشرة مع الأمويين، الذين كانوا يسعون لتعزيز نفوذهم في المغرب الأقصى.
الصراع مع الأمويين ومقتل الحسن بن كنون
رد الأمويون، بقيادة الخليفة الحكم المستنصر، على تحركات الحسن بإرسال جيش وأسطول بقيادة محمد بن القاسم وعبد الرحمن بن رماحس. استعاد الأمويون طنجة ودُلُول وأصيلة، لكن الحسن تمكن من هزيمتهم في معركة فحص بني مصرخ قرب طنجة عام 972م، حيث قُتل قائدهم. هذا النصر عزز موقف الحسن مؤقتًا، لكنه لم يكن كافيًا لاستعادة قوة الدولة الإدريسية.
في عام 974م، أرسل المنصور العامري، حاجب الخليفة الأموي هشام المؤيد، جيشًا بقيادة ابن عمه عمر بن عبد الله بن أبي عامر، مدعومًا بقوات بقيادة ابنه عبد الملك المظفر. حاصر الأمويون الحسن خارج سبتة، حيث اضطر للاستسلام مقابل الأمان والسماح له بالعودة إلى قرطبة. لكن المنصور خالف الأمان، وفي الطريق إلى الأندلس، قُتل الحسن بن كنون عام 985م، مما أنهى الوجود السياسي للدولة الإدريسية في المغرب الأقصى، باستثناء ظهور لاحق للحموديين في الأندلس.
أسباب سقوط الدولة الإدريسية
سقوط الدولة الإدريسية كان نتيجة عوامل متعددة. أولاً، الصراعات الداخلية بين أفراد الأسرة الحاكمة أضعفت الدولة وقلصت من نفوذها. ثانيًا، الضغوط الخارجية من الفاطميين والأمويين، الذين تنافسوا على السيطرة على المغرب الأقصى، جعلت بقاء الدولة أمرًا صعبًا. ثالثًا، فقدان الدعم القبلي، حيث كانت القبائل الأمازيغية مثل زناتة ومغراوة تلعب دورًا كبيرًا في الصراعات السياسية، مما ساهم في تفتيت سلطة الأدارسة.
مثّل مقتل الحسن بن كنون عام 985م النهاية الفعلية للدولة الإدريسية، التي كانت رمزًا للحكم الإسلامي المستقل في المغرب الأقصى. هذه النهاية لم تكن مجرد خسارة سياسية، بل كانت انعكاسًا لتحولات عميقة في المشهد السياسي والقبلي في المنطقة. رغم زوالها، تركت الدولة الإدريسية إرثًا ثقافيًا ودينيًا عميقًا، خاصة من خلال تأسيس مدينة فاس، التي أصبحت مركزًا حضاريًا وثقافيًا هامًا في العالم الإسلامي.
سيطرة زيري بن عطية على فاس
مقدمة عن زيري بن عطية
زيري بن عطية، زعيم قبيلة مغراوة من الأمازيغ زناتة، كان أحد أبرز الشخصيات السياسية في المغرب الأقصى خلال أواخر القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي). برز كقوة سياسية وعسكرية في فترة شهدت ضعف الدولة الإدريسية وتنافس القوى الإقليمية، مثل الأمويين في الأندلس والفاطميين في إفريقية، على السيطرة على المنطقة. استطاع زيري، بفضل دهائه السياسي وتحالفاته الاستراتيجية، أن يؤسس حكمًا قويًا في فاس، مما جعلها مركزًا لنفوذه.
سيطرة زيري بن عطية على فاس
بعد وفاة أخيه مقاتل بن عطية، تولى زيري بن عطية زعامة قبيلة مغراوة حوالي عام 978-979م (367-368هـ). في تلك الفترة، كانت فاس، التي أسسها الأدارسة، تمر بمرحلة من الضعف بسبب الصراعات الداخلية وفقدان السيطرة الإدريسية على المدينة. استغل زيري هذا الفراغ السياسي، وفي عام 987-988م (377-378هـ)، استولى على فاس، مؤسسًا قاعدة حكمه الرئيسية. لم تكن السيطرة على فاس مجرد استيلاء عسكري، بل كانت خطوة استراتيجية لتعزيز نفوذه في المغرب الأقصى.
عزز زيري سلطته في فاس من خلال قمع التمردات القبلية التي هددت استقرار المدينة. في عام 989م، هاجم أبو البهار، وهو أحد القادة الذين انشقوا عن الفاطميين، لكن زيري تمكن من هزيمته بسهولة، حيث فر أبو البهار دون مقاومة تذكر. هذا الانتصار سمح لزيري بتوسيع سيطرته على معظم أرجاء المغرب الأقصى، مما جعله قوة لا يستهان بها في المنطقة.
تعزيز الحكم وتأسيس وجدة
لم يكتفِ زيري بالسيطرة على فاس، بل سعى إلى تعزيز موقعه من خلال إنشاء مراكز دفاعية جديدة. في عام 984هـ (حوالي 994م)، أسس مدينة وجدة لتكون ثغرًا دفاعيًا بين المغرب الأقصى والمغرب الأوسط، مما ساعد في حماية حدوده من الغزوات المحتملة. أصبحت وجدة نقطة استراتيجية لتأمين التجارة والسيطرة على الطرق بين المنطقتين.
ومع ذلك، واجه زيري تحديات داخلية. أثناء غيابه عن فاس، استولى يدو بن يعلى اليفرني، وهو زعيم من قبيلة زناتة المنافسة، على المدينة. عاد زيري بسرعة وخاض حربًا ضارية ضد يدو، استرد خلالها فاس وقتل خصمه. أرسل زيري رأس يدو إلى المنصور العامري، حاجب الخليفة الأموي في الأندلس، كدليل على ولائه وتأكيدًا على قوته.
العلاقة مع الأمويين
في البداية، كان زيري بن عطية مواليًا للأمويين في الأندلس، حيث كانوا يدعمون قبيلة مغراوة كجزء من استراتيجيتهم لمواجهة الفاطميين. في عام 382هـ (992م)، زار زيري المنصور العامري في قرطبة، حيث استقبل بحفاوة وأكرم كحليف مهم. ومع ذلك، توترت العلاقة لاحقًا بسبب سياسة المنصور في الحجر على الخليفة الأموي هشام المؤيد. في عام 386هـ (996م)، أعلن زيري البراءة من المنصور، مما أدى إلى مواجهات عسكرية. أرسل المنصور جيشًا بقيادة واضح وعبد الملك المظفر، فهُزم زيري قرب طنجة واضطر للفرار إلى فاس، لكن أهلها رفضوا استقباله، مما دفعه للتوجه إلى المغرب الأوسط.
مثّلت سيطرة زيري بن عطية على فاس محطة مهمة في تاريخ المغرب الأقصى، حيث ملأ الفراغ السياسي الذي تركه ضعف الدولة الإدريسية. من خلال قوته العسكرية وتحالفاته الاستراتيجية، استطاع زيري أن يؤسس حكمًا قويًا في فاس، ووسع نفوذه إلى مناطق أخرى مثل وجدة. رغم التحديات التي واجهها، خاصة مع الأمويين، ترك زيري بن عطية إرثًا سياسيًا وقبليًا مهد الطريق لتطورات لاحقة في المنطقة. توفي زيري عام 1001م في أشير، لكن فترة حكمه ظلت شاهدة على قدرة القادة المحليين على تشكيل المشهد السياسي في المغرب خلال تلك الفترة العصيبة.
مثّل مقتل الحسن بن كنون نهاية الدولة الإدريسية، التي كانت رمزًا للحكم الإسلامي المستقل في المغرب الأقصى. في الوقت نفسه، برز زيري بن عطية كقوة جديدة، مستغلًا الفراغ السياسي ليؤسس حكمًا قويًا في فاس، لكنه واجه تحديات كبيرة مع الأمويين الأندلسيين. هذه الفترة من التاريخ المغربي تعكس تعقيدات الصراعات السياسية والقبلية في القرن العاشر الميلادي، وتظل محطة مهمة في فهم تطور الدولة المغربية.