تاريخ المغرب في فترة نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي و تاسيس دولة الادارسة

بِسْــــــــــــــــمِ اﷲِالرَّحْمَنِ الرَّحِيم

 


تشكل فترة نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي (القرن الثامن الميلادي) مرحلة حاسمة في تاريخ المغرب الأقصى. شهدت هذه الفترة تحولات سياسية واجتماعية عميقة، حيث بدأ المغرب يرسم ملامح استقلاله عن الخلافة المركزية. من ثورات الأمازيغ إلى تأسيس الدولة الإدريسية، يبرز هذا العصر كبداية للهوية المغربية المستقلة. في هذا المقال، نستعرض لكم أبرز الأحداث التي شكلت هذه المرحلة.

الحكم الأموي في المغرب: بداية مضطربة

بدأ الحكم الأموي (661-750م) في شمال إفريقيا مع الفتوحات الإسلامية في القرن السابع. أسس عقبة بن نافع مدينة القيروان عام 670م، التي أصبحت مركزًا لنشر الإسلام والسيطرة الإدارية. لكن الحكم الأموي في المغرب الأقصى واجه تحديات كبيرة، خاصة مقاومة القبائل الأمازيغية التي رفضت الخضوع الكامل لسلطة دمشق.

بحلول منتصف القرن الثامن، تفاقم الوضع بسبب السياسات القاسية لبعض الولاة الأمويين، مثل فرض الجزية على الأمازيغ المسلمين والتمييز بين العرب والأمازيغ. أدت هذه السياسات إلى استياء واسع، مما مهد لانتفاضات كبرى ضد الحكم الأموي.

ثورة البربر الكبرى

في عام 739م، اندلعت ثورة البربر الكبرى بقيادة ميسرة المطغري، وهي ثورة تبنت الأفكار الخوارجية التي تدعو إلى المساواة بين المسلمين. استهدفت الثورة إنهاء السيطرة الأموية، ونجح الثوار في طرد الولاة الأمويين من معظم المغرب الأقصى. أدت هذه الثورة إلى تفكك السلطة المركزية وظهور إمارات أمازيغية مستقلة.

من أبرز هذه الإمارات إمارة برغواطة على الساحل الأطلسي، بقيادة صالح بن طريف، الذي أسس نظامًا سياسيًا وعقيدة دينية فريدة تجمع بين الإسلام والتقاليد الأمازيغية. كما ظهرت إمارة نكور في الريف، مما عزز الاستقلال المحلي.

بداية الحكم العباسي: سيطرة محدودة

السياق التاريخي: صعود العباسيين

في عام 750م، نجحت الثورة العباسية في الإطاحة بالدولة الأموية، ونقل العباسيون مركز الخلافة من دمشق إلى  الانبار ثم الى بغداد لاحقًا. اعتمد العباسيون في صعودهم على دعم واسع من فئات متنوعة، بما في ذلك الفرس والشيعة والمظلومين من سياسات الأمويين. لكنهم، بعد استيلائهم على السلطة، واجهوا تحديات كبيرة في فرض سيطرتهم على الأطراف البعيدة للدولة الإسلامية، خاصة المغرب الأقصى.

كان المغرب، بموقعه الجغرافي النائي، منطقة يصعب السيطرة عليها من مركز الخلافة. إضافة إلى ذلك، كانت القبائل الأمازيغية قد بدأت في تأكيد استقلالها السياسي بعد ثورة البربر الكبرى (739-743م)، التي أضعفت الحكم الأموي وأدت إلى ظهور إمارات محلية مستقلة.

محدودية السيطرة العباسية على المغرب

عندما تولى العباسيون الحكم، حاولوا استعادة السيطرة على المغرب الأقصى من خلال تعيين ولاة موالين لهم. لكن هذه المحاولات قوبلت بمقاومة شديدة لعدة أسباب:

  1. البعد الجغرافي: كانت المسافة بين بغداد والمغرب الأقصى عائقًا كبيرًا. غياب الاتصالات السريعة وصعوبة إرسال الجيوش جعلا السيطرة المباشرة شبه مستحيلة.

  2. الاستقلال الأمازيغي: بعد ثورة البربر الكبرى، أسست القبائل الأمازيغية إمارات مستقلة، مثل إمارة برغواطة وإمارة نكور. هذه الإمارات رفضت الخضوع لسلطة العباسيين، مفضلة الحكم الذاتي.

  3. الصراعات الداخلية: كان العباسيون منشغلين بتثبيت حكمهم في المشرق، خاصة مع التمردات المتكررة مثل ثورات العلويين والخوارج. هذا الوضع قلل من قدرتهم على تخصيص موارد للسيطرة على المغرب.

  4. التأثير الثقافي المحلي: تبنت بعض الإمارات الأمازيغية عقائد دينية خاصة، مثل إمارة برغواطة التي طورت مزيجًا من الإسلام والمعتقدات المحلية، مما جعل فرض السيطرة العباسية أكثر تعقيدًا.

نتيجة لهذه العوامل، اقتصر النفوذ العباسي في المغرب على مدن رئيسية مثل القيروان، بينما ظل المغرب الأقصى خارج السيطرة المباشرة.

 

الدولة الإدريسية: أسس الاستقلال المغربي

تعد معركة فخ (786م) من الأحداث المفصلية في التاريخ الإسلامي، حيث شكلت نقطة تحول أدت إلى هروب إدريس بن عبد الله إلى المغرب الأقصى، ومن ثم تأسيس الدولة الإدريسية، أول دولة إسلامية مستقلة في المغرب. في هذا المقال، نستعرض أحداث معركة فخ، هروب إدريس بن عبد الله، وكيف أسس الدولة الإدريسية التي مهدت لتشكيل الهوية المغربية.

معركة فخ: السياق والأحداث

وقعت معركة فخ في عام 786م بالقرب من مكة، في وادي فخ، خلال فترة حكم الخليفة العباسي الهادي. كانت هذه المعركة نتيجة تمرد قاده الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو من العلويين، ضد الحكم العباسي. استند التمرد إلى استياء العلويين من سياسات العباسيين، الذين اعتبروهم قد اغتصبوا الخلافة من أهل البيت.

شارك إدريس بن عبد الله، وهو علوي من نسل الحسن بن علي، في هذا التمرد إلى جانب الحسين. لكن الجيش العباسي، بقيادة قائد عسكري موالٍ للخليفة، تمكن من سحق الثورة في معركة فخ. قُتل الحسين وعدد كبير من أنصاره، فيما تمكن إدريس بن عبد الله من النجاة والفرار. كانت هذه الهزيمة بمثابة ضربة قوية للعلويين، لكنها فتحت الباب أمام إدريس ليبدأ مرحلة جديدة في المغرب الأقصى.

هروب إدريس بن عبد الله إلى المغرب

بعد هزيمة معركة فخ، أصبح إدريس بن عبد الله مطاردًا من قبل العباسيين، الذين سعوا للقضاء على أي تهديد محتمل من العلويين. قرر إدريس الفرار بعيدًا عن مركز الخلافة العباسية في بغداد، فاتجه غربًا نحو المغرب الأقصى، وهي منطقة كانت تتمتع باستقلال نسبي عن الخلافة بسبب بعدها الجغرافي وتأثير ثورة البربر الكبرى (739-743م).

وصل إدريس إلى مدينة وليلي (فوليبيليس) في المغرب عام 786م، واستقبله زعيم قبيلة أوربة الأمازيغية، إسحاق بن محمد. استفاد إدريس من نسبه الشريف كحفيد للإمام علي بن أبي طالب، مما منحه قبولًا واسعًا بين القبائل الأمازيغية التي كانت تبحث عن قائد يوحد صفوفها. كما ساعدته الظروف السياسية في المغرب، حيث كانت المنطقة تعاني من ضعف السيطرة العباسية وتشتت الإمارات المحلية.

تأسيس الدولة الإدريسية

في عام 788م، أعلن إدريس بن عبد الله تأسيس الدولة الإدريسية، وهي أول دولة إسلامية مستقلة في المغرب الأقصى. اتخذ إدريس من وليلي مقرًا لحكمه، وبدأ في توحيد القبائل الأمازيغية تحت رايته. اعتمد إدريس على دعم قبيلة أوربة، التي رأت فيه قائدًا شرعيًا يمكنه مواجهة النفوذ العباسي والإمارات الأمازيغية الأخرى، مثل إمارة برغواطة.

عمل إدريس الأول على نشر الإسلام المالكي بين القبائل، مما ساهم في تعزيز الوحدة الدينية والثقافية. كما أقام علاقات دبلوماسية مع القبائل المحلية لتوسيع نفوذه. لكن حياته لم تدم طويلًا، إذ تُوفي عام 791م، ويُعتقد أنه قُتل بتدبير من العباسيين الذين أرسلوا عميلًا لاغتياله.

استمرار الدولة الإدريسية تحت إدريس الثاني

بعد وفاة إدريس الأول، تولى ابنه إدريس الثاني الحكم وهو طفل، بمساعدة وصي من قبيلة أوربة. في عام 808م، أسس إدريس الثاني مدينة فاس، التي أصبحت عاصمة الدولة الإدريسية ومركزًا سياسيًا وثقافيًا. عمل إدريس الثاني على تعزيز سلطة الدولة من خلال تنظيم الإدارة وتوسيع النفوذ إلى مناطق أخرى في المغرب، مثل تافيلالت والريف.

ساهمت الدولة الإدريسية في إرساء أسس الاستقلال المغربي عن الخلافة العباسية. كما شكلت نموذجًا للتعاون بين العنصر العربي، ممثلاً في إدريس ونسله، والعنصر الأمازيغي، ممثلاً في القبائل الداعمة. أصبحت فاس مركزًا للعلم والثقافة، ومهدت لظهور التراث الأندلسي-المغربي.

الأثر الثقافي والسياسي

كان لتأسيس الدولة الإدريسية أثر عميق على المغرب. سياسيًا، أنهت الدولة الإدريسية التبعية للخلافة العباسية، وبدأت مرحلة الاستقلال المغربي. ثقافيًا، ساهمت في نشر المذهب المالكي، الذي أصبح الطابع الديني المهيمن في المغرب. كما شكلت الدولة الإدريسية أساسًا للدول المغربية اللاحقة، مثل المرابطين والموحدين.

تمثل معركة فخ وهروب إدريس بن عبد الله وتأسيس الدولة الإدريسية لحظة فارقة في تاريخ المغرب. من هزيمة العلويين في فخ إلى بناء دولة مستقلة في المغرب الأقصى، استطاع إدريس الأول وخليفته إدريس الثاني وضع الأسس لهوية مغربية متميزة. الدولة الإدريسية لم تكن مجرد كيان سياسي، بل كانت بداية لمسار طويل من الاستقلال والوحدة الثقافية التي شكلت ملامح المغرب الحديث.

الإرث الثقافي والاجتماعي

الإرث الثقافي

نشر الإسلام

كان لتأسيس الدولة الإدريسية دور حاسم في نشر الإسلام الصحيح في المغرب. إدريس الأول، ولاحقًا إدريس الثاني، عملا على تعليم الدين الصحيح  للقبائل الأمازيغية. ساعد هذا  على توحيد المجتمع المغربي تحت مظلة دينية مشتركة، مما قلل من التأثيرات الخوارجية والمعتقدات المحلية غير الإسلامية.

تأسيس فاس كمركز ثقافي

عندما أسس إدريس الثاني مدينة فاس عام 808م، أصبحت مركزًا ثقافيًا وعلميًا بارزًا. جذبت فاس العلماء والتجار، مما ساهم في تطوير العلوم الدينية واللغة العربية. كما بدأت ملامح التراث الأندلسي-المغربي تتشكل، حيث كانت فاس نقطة التقاء بين الثقافات العربية والأمازيغية، مع تأثيرات لاحقة من الأندلس.

تطور العمارة والفنون

شهدت هذه الفترة بدايات تطور العمارة الإسلامية في المغرب. بناء مدينة فاس، بمساجدها وأسواقها، وضع الأسس للطراز المعماري المغربي الذي تميز لاحقًا بالزخارف الهندسية والبناء المنظم. كما بدأت الفنون الشعبية، مثل الشعر والموسيقى الأمازيغية، تتأثر بالثقافة العربية الإسلامية، مما أدى إلى ظهور أشكال فنية مختلطة.


اللغة والأدب

ساهم انتشار الإسلام في تعزيز استخدام اللغة العربية كلغة دينية وإدارية. بدأت القبائل الأمازيغية تتفاعل مع اللغة العربية، خاصة في المجالات الدينية والسياسية، مما أدى إلى ظهور نخبة محلية متعلمة. كما بدأت تظهر أشكال أدبية تعبر عن الهوية المغربية، مثل الشعر الديني والروايات التاريخية عن الفتوحات.

الإرث الاجتماعي

التعاون بين العرب والأمازيغ

كانت الدولة الإدريسية نموذجًا للتعاون بين العنصر العربي، ممثلاً في إدريس الأول ونسله، والعنصر الأمازيغي، ممثلاً في قبيلة أوربة وغيرها. هذا التعاون ساعد على بناء مجتمع متماسك، حيث تم دمج القبائل الأمازيغية في الهيكلية السياسية والدينية للدولة. أدى ذلك إلى تقليل الصراعات القبلية وتعزيز الشعور بالانتماء المشترك.

ظهور النخب المحلية

ساهمت الدولة الإدريسية في ظهور نخب محلية تجمع بين الثقافة العربية الإسلامية والهوية الأمازيغية. هذه النخب لعبت دورًا في الإدارة والتعليم، وساهمت في نقل المعارف بين الشرق الإسلامي والمغرب. كما بدأت تتشكل طبقة وسطى من التجار والحرفيين في المدن مثل فاس والقيروان.

تنوع المجتمع

رغم سيطرة الإسلام كدين، ظل المجتمع المغربي متنوعًا. استمرت إمارة برغواطة، على سبيل المثال، في تطوير عقيدة دينية خاصة تجمع بين الإسلام والمعتقدات الأمازيغية التقليدية. هذا التنوع عكس قدرة المجتمع المغربي على استيعاب التأثيرات الخارجية مع الحفاظ على هويته المحلية.

تأثير الإرث على المستقبل

الإرث الثقافي والاجتماعي لهذه الفترة كان له أثر دائم على المغرب. فقد أرست الدولة الإدريسية أسس الاستقلال السياسي والثقافي، مما مهد لظهور دول قوية مثل المرابطين والموحدين. كما أن نشر المذهب المالكي وتأسيس فاس كمركز ثقافي وضعا الأسس للنهضة العلمية والثقافية في المغرب خلال العصور الوسطى. إضافة إلى ذلك، شكل التعاون بين العرب والأمازيغ نموذجًا للوحدة الوطنية التي ميزت المغرب لاحقًا.


تمثل فترة نهاية الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي مرحلة تأسيسية في تاريخ المغرب. من خلال ثورة البربر الكبرى وتأسيس الدولة الإدريسية، انتقل المغرب من التبعية إلى الاستقلال السياسي. هذه الفترة لم تشكل فقط بداية الدولة المغربية، بل أرست أيضًا أسس هوية ثقافية ودينية متماسكة، لا تزال آثارها واضحة حتى اليوم.

اشترك في قناتنا على اليوتيوب ❤ × +
ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِين

إرسال تعليق

أحدث أقدم